كيف أصبح الحلم حقيقة
أو
هي تشخر ... و زادتها بف
إنهال فوق رأسى هواء شديد البرودة من فوهات أجهزة التكييف. إقتربت منى مضيفة
تونسية كانت تحاول عبثاً أن تخفى عمرها خلف طبقات "المكياج"
الكثيفة، وطلبت منى أن أربط حزام مقعدى. بدأت المحركات فى الصياح وتحركت الطائرة
إلى ال "البيست". إرتفع صوت المحركات ومكيفات الهواء. فقدت عجلت الطائرة
ملمس الأرض وراح الطائر الحديدى يحلق فى سماء جربة "إلى أرضٍ بلا
أبطال!" راح خليط من نشوة الحرية وقبضة الخوف يهز كيانى : التحرر من قيود
مجتمع أعرفه والخوف من خفايا مجتمع لا أعرفه ... التحرر من عيون المراقبين والخوف
ألا أجد فى غربتى عينا تحرسنى ... الخوف من أن أصير سفينة بلا ميناء، أترك ضفة دون
أن أصل إلى ضفة أخرى، فأصبح حائرا بين ضفتين.
كنت أظن الفرنسيين زرق العيون شقر الشعر وطويلي القامة !! ولكن جارى فى
الطائرة كان قصيرا مكوّرا وكان شعره خفيفا وغير مهذب وكأنه خليط من شعر الماعز
وشعر جارنا خليفة
- "هل هذه أول زيارة لك لفرنسا ؟" سألنى
جارى بلغة فرنسيةفصيحة
- " نعم " رددت فى
برود، فلم أكن أرغب فى الدخول معه فى حديث عقيم فقط من أجل كسر ملل سفره الطويل
- " هل مسموح لى أن أسألك
ماذا ستفعل فى فرنسا ؟" سأل الجار العرقان
- " نعم.. إنه مسموح
لك" رددت بسخرية لم يفهمها فكرر سؤاله
- " سأدرس فى الجامعة هناك "
- " وماذا ستدرس ؟ "
-" هندسة الأنظمة الذكية و الروبوتات "
- "الروبوتات ؟ ... رائع ... ولكن لماذا فى
فرنسا بالذات؟"
واصل الجار الممل أسئلته ...
- "إخترت فرنسا بسبب المنتخب الفرنسي الذى
يكسب كأس العالم رغم أن خصمه يلعب أفضل!" ... قلت ذلك بسخرية وظننت أن
ردى هذه المرة سينقذنى من فضول ذلك الشخص المثير للشمئزاز
- "!لا ... لا .. لقد كان ذلك فى الماضى فقط
... أما الآن فلا يكسب فريقنا حتى زهرية ورود واحدة"
.لم أجد فى النهاية حلا إلا إصطناع النوم ...
نظرت من النافذة من
جديد قبل وصول الطائرة لمطار "باريس "... رأيت خَضارا بكل أشكاله
ودرجاته ... خَضارا غير متناهى وكأنه الصحراء الكبرى. كانت ضفاف واد مجردة مقارنةً
بهذا الخضار الممتد مجرد ضيعة صغيرة أو مجرد بصيص أمل للنمو ... بدأ هذا اللون
الطاغى يملأنى بالخوف، فقد كان يحمل بداخله ثقة المغرور وتخمة الشبعان الذى لا
يعرف شيئا عن معاناة الأشقياء... كان هذا اللون يرمز لقوة لا تقُهر وجيش لا يهُزم
... ثم بدأت مدينة الأنوار فى الظهور تحيط بها مرتفعات جبلية صغيرة وسحابات بيضاء،
فبدت وكأنها وعاء تصب فيه الحياة من جهة وتهرب منه الحياة من جهة أخرى ...
هبطت الطائرة شيئا فشيئا فرأيت أبراجا وبنوكا ومصانعاً يشق نهر
"السين" طريقه بينهم بصعوبة، وكأن وظيفته الرئيسية كانت إنعاش مدينة
مريضة ... صرخت عجلت الطائرة عندما أرغمتها الفرامل على التوقف أمام صالة الوصول
... خرجت من الطائرة الباردة ومررت خلال خرطوم شفط المهاجرين. وقفت فى الصالة
الكبيرة تبهرنى الأضواء وتزكم أنفى الروائح غير المألوفة : شممت رائحة قهوة
أوروبية وعرق مشبع بالكحول وروائح عطور قوية ولكنها بلا روح. وطغت على كل ذلك
رائحة مواد معقمة ومطهرة وكأن المكان كله مرحاض نظيف ...
وقفت أمام ضابط الجوازات فراح ينظر إلى صورتى فى جواز السفر ثم يمعن النظر إلى
وجهى وكأن لسان حاله يقول "راعى جمال آخر يريد أن يستمتع بحريتنا
ورفاهيتنا؟" ... لو كانت عيونه تنطق باللهجة التونسية لقالت : هي تشخر ... و
زادتها بف "
كان كل شىء غريب على حواسى فى الأيام الأولى فى فرنسا : الناس، الروائح،
اللوان والطعام ودرجات الحرارة ... رحت أفتقد الأصوات والأشياء والألوان المألوفة
التى كانت تساعدنى على التعرف على نفسى وعلى محيطى ... رحت حتى أفتقد الصور
النمطية التى كانت مرتبطة فى ذهنى بفرنسا.. فقد أصبت حتى بخيبة الأمل لأننى أبدا
لم أرَ شباب "الجبهة الوطنية" يجوبون الشوارع ويهتفون مطالبين بطرد
الأجانب ... وأصابنى أكثر من ذلك بخيبة الأمل أننى لم أرَ شقروات عاريات فى
الشوارع على الإطلاق ... لاحظت أن معظم " الفرنسيس " لهم شعر
بنى وعيون داكنة !!!
لم تمض ايام معدودة حتى دخلت إلى اول ملهى في الحي اللاتيني في باريس ومذاق
الحرية اللذيذة يملأ حلقى ورائحة الهواء المشبع بالتبغ والكحول تزكم أنفى، وصوت
الطبول الرتيبة يمل أذنىّ ... طلبت من "البار" كأسا، جلست فى ركن من أركان الملهى أراقب الشراب الداكن يرقص فى
الكأس وأنا أتذكر إحدى قصائد "عمر الخيّام" التى تبدأ ب "إن القرآن
يبدو أكثر جمالا عندما يُنقش على كأس الخمر !" ... ! ياله من زنديق ! يالها
من صورة جميلة
تخيلت نفسى أجلس فى حديقة فارسية وأتحاور مع متصوف فأسأله "هل الخمر
حرام؟" فيرد على بإجابة غامضة "إن الخمر حرام، ولكن الخمر أيضا طريق..
وكل الطرق تؤدى إلى الله !!
""
" فناء - بقاء - توكلّ " رحت أتذكر
المتصوفين وهم يرقصون ويذكرون الله .. كان منظر الشباب والشابات فى "الديسكو
"لا يختلف كثيراً عن رجال الطرق الصوفية، فقد كان كل منهم يطوح رأسه يميناً
وشمال باحثا عن النشوة والخلص ... " كلّ يعبد الله على طريقته ! " تذكرت
مقولة أبى ...
فى الحقيقه كان معظم الفرنسيين الذين قابلتهم محترمين ... كان فقط يضايقنى حب المثقفين
منهم للنقاش العقيم، فكان زملائى فى الجامعة وحتى أساتذتى ينتظرون منى أن أكون خبيرا
فى الشئون الإسلامية ويوجهون إلى دائما نفس السئلة، لا من باب حب المعرفة ولكن من باب
الفضول والتسلية : لماذا تزوج النبى من 13 إمرأة بينما لا يُسمح للرجل المسلم الزواج
إلا من أربعة فقط؟ ... أو : لماذا يميل المسلمون للعنف ؟ ...أو : ما سر تخلف العالم
الإسلامى؟ ولماذا يأمر القرآن الرجال بضرب نسائهم؟؟؟؟؟؟
لم أكن أرغب فى الدفاع عن الإسلام، ولكن مثل هذه الأسئلة يستفز كل مسلم فى الغربة
فل يجد بديلا من أن يصبح محامياً للإسلام بل وداعية أيضا ... كان يضايقني أن أسمع منهم كلمة "محمد" بدون أن أسمع بعدها
"عليه الصلاة والسلام " ...